فصل: تفسير الآيات (161- 163):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (161- 163):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)}
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} جملةٌ مستأنفة سيقت لتحقيق بقاءِ اللعن فيما وراء الاستثناءِ وتأكيدِ دوامِه واستمرارِه على غير التائبين حسبما يفيده الكلام، والاقتصارُ على ذكر الكفر في الصلة من غير تعرضٍ لعدم التوبة والإصلاحِ والتبيينِ مبنيٌّ على ما أشير إليه فكما أن وجودَ تلك الأمور الثلاثةِ مستلزِمٌ للإيمان الموجبِ لعدم الكفر كذلك وجودُ الكفر مستلزمٌ لعدمها جميعاً أي أن الذين استمروا على الكفر المستتبِع للكتمان وعدمِ التوبة {وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ} لا يرعوون عن حالتهم الأولى {أولئك} الكلامُ كما فيما قبله {عَلَيْهِمْ} أي مستقِرٌّ عليهم {لَعْنَةُ الله والملئكة والناس أَجْمَعِينَ} ممن يُعتَدُّ بلعنهم، وهذا بيانٌ لدوامها الثبوتي بعد بيان دوامِها التجدّدي، وقيل: الأولُ لعنتَهم أحياءً وهذا لعنتُهم أمواتاً. وقرئ {والملائكةُ والناسُ أجمعون} عطفاً على محلِّ اسم الله لأنه فاعلٌ في المعنى، كقولك: أعجبني ضربُ زيدٍ وعمروٍ، تريد مِنْ أنْ ضَربَ زيدٌ وعمروٌ، كأنه قيل: أولئك عليهم أنْ لعنهم الله والملائكةُ إلخ وقيل: هو فاعل لفعل مقدرٍ أي ويلعنهم الملائكة {خالدين فِيهَا} أي في اللعنة أو في النار على أنها أُضمرت من غير ذكرٍ تفخيماً لشأنها وتهويلاً لأمرِها {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب} إما مستأنفٌ لبيان كثرة عذابِهم من حيث الكيفُ إثرَ بيانِ كثرتِه من حيث الكمُّ أو حال من الضمير في خالدين على وجه التداخُل أو من الضمير في عليهم على طريقة الترادُف {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} عطفٌ على ما قبله جارٍ فيه، وإيثارُ الجملةِ الاسميةِ لإفادة دوامِ النفي واستمراره أي لا يُمهلون ولا يُؤجّلون أو لا يُنتظرون ليعتذروا أو لا يُنظر إليهم نَظَر رحمة {وإلهكم} خطابٌ عام لكافة الناس أي المستحِقُّ منكم للعبادة {إله واحد} أي فردٌ في الإلهية لا صحةَ لتسمية غيرِه إلها أصلاً {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} خبرٌ ثانٍ للمبتدأ أو صفةٌ أخرى للخبر أو اعتراضٌ، وأياً ما كان فهو مقرِّرٌ للوحدانية ومُزيحٌ لما عسى أن يُتوهّم أن في الوجود إلها لكن لا يستحق العبادة {الرحمن الرحيم} خبران آخرانِ للمبتدأ أو لمبتدأ محذوفٍ وهو تقريرٌ للتوحيد فإنه تعالى حيث كان مُولياً لجميع النعم أصولِها وفروعِها جليلِها ودقيقِها وكان ما سواه كائناً ما كان مفتقراً إليه في وجوده وما يتفرَّع عليه من كمالاته تحققتْ وحدانيتُه بلا ريب وانحصر استحقاقُ العبادةِ فيه تعالى قطعاً.
قيل: كان للمشركين حول الكعبة المكرمة ثلثُمائة وستون صنماً فلما سمعوا هذه الآيةَ تعجبوا وقالوا: إن كنت صادقاً فأتِ بآيةٍ نعرِفْ بها صدقك فنزلت.

.تفسير الآية رقم (164):

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)}
{إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والارض} أي في إبداعهما على ما هما عليه مع ما فيهما من تعاجيب العِبَر وبدائِع صنائعَ يعجِزُ عن فهمها عقولُ البشر، وجمعُ السموات لما هو المشهورُ من أنها طبقاتٌ متخالفة الحقائقِ دون الأرض {واختلاف اليل والنهار} أي اعتقابِهما وكونِ كلَ منهما خلَفاً للآخر كقوله تعالى: {وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً} أو اختلافُ كل منهما في أنفسهما ازدياداً وانتقاصاً على ما قدّره الله تعالى {والفلك التي تَجْرِى فِي البحر} عطفٌ على ما قبله، وتأنيثُه إما بتأويل السفينة أو بأنه جمعٌ فإن ضمةَ الجمعِ مغايرةٌ لضمة الواحد في التقدير إذ الأُولى كما في حُمُر والثانية كما في قُفْل وقرئ بضم اللام {بِمَا يَنفَعُ الناس} أي ملتبسة بالذي ينفعُهم مما يُحمل فيها من أنواع المنافعِ أو بنفعهم {وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السماء مِن مَّاء} عطفٌ على الفلك، وتأخيرُه عن ذكرها مع كونه أعمَّ منها نفعاً لما فيه من مزيد تفصيلٍ وقيل: المقصودُ الاستدلالُ بالبحر وأحوالِه، وتخصيصُ الفلك بالذكر لأنه سببُ الخوض فيه والاطلاعِ على عجائبه، ولذلك قدِّم على ذكر المطرِ والسحابِ لأن منشأهما البحرُ في غالب الأمر، و{من} الأولى ابتدائيةٌ والثانية بيانية أو تبعيضية، وأيا ما كان فتأخيرُها لما مرَّ مراراً من التشويقِ، والمرادُ بالسماء الفَلَكُ أو السحابُ أو جهةُ العلوِّ {فأحيا بِهِ الارض} بأنواع النباتِ والإزهارِ وما عليها من الأشجار {بَعْدَ مَوْتِهَا} باستيلاء اليُبوسةِ عليها حسبما تقتضيه طبيعتُها كما يوزن به إيرادُ الموت في مقابلة الإحياء {وَبَثَّ فِيهَا} أي فرَّق ونشر {مِن كُلّ دَابَّةٍ} من العقلاء وغيرهم، والجملة معطوفةٌ على {أنزل} داخلةٌ تحت حكمِ الصلةِ، وقوله تعالى: فأحيا إلخ متصلٌ بالمعطوف عليه بحيث كانا في حكم شيءٍ واحد، كأنه قيل: وما أَنزل في الأرض من ماءٍ وبثَّ فيها إلخ أو على أحيا بحذف الجارِّ والمجرور العائدِ إلى الموصول، وإن لم تتحقق الشرائِطُ المعهودةُ كما في قوله:
وإن لساني شَهْدةٌ يشتفى بها ** ولكنْ على مَنْ صَبَّه الله علقمُ

أي علقمٌ عليه وقولِه:
لعلَّ الذي أصْعَدْتَني أن يرُدَّني ** إلى الأرضِ إن لم يقدِرِ الخيرَ قادِرُهْ

على معنى فأحيا بالماء الأرضَ وبث فيها من كل دابةٍ فإنهم ينمُون بالخصب ويعيشون بالحَيا {وَتَصْرِيفِ الرياح} عطفٌ على {ما أنزل} أي تقليبِها من مقلبٍ إلى آخرَ أو من حال إلى أخرى، وقرئ على الإفراد {والسحاب} عطفٌ على تصريفِ أو الرياحِ، وهو اسمُ جنسٍ واحده سَحابةٌ سمي بذلك لانسحابه في الجو {المسخر بَيْنَ السماء والارض} صفةٌ للسحاب باعتبار لفظه، وقد يُعتبر معناه فيوصف بالجمع كما في قوله تعالى: {سَحَابًا ثِقَالاً} وتسخيرُه تقليبُه في الجو بواسطة الرياحِ حسبما تقتضيه مشيئةُ الله تعالى، ولعل تأخيرَ تصريفِ الرياحِ وتسخيرِ السحاب في الذكر عن جريان الفُلك وإنزال الماء مع انعكاس الترتيب الخارجيّ لما مر في قصة البقرة من الإشعار باستقلال كلَ من الأمور المعدودة في كونها آيةً، ولو رُوعيَ الترتيبُ الخارجيُّ لربما تُوهُم كونُ المجموعِ المترتبِ بعضُه على بعضٍ آيةً واحدة {لاَيَاتٍ} اسمُ {إن} دخلته اللامُ لتأخرّه عن خبرها، والتنكيرُ للتفخيم كماً وكيفاً، أي آياتٍ عظيمةً كثيرةً دالةً على القدرة القاهرة والحِكمة الباهرةِ، والرحمةِ الواسعة المقتضيةِ لاختصاص الألوهية به سبحانه {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي يتفكرون فيها وينظرون إليها بعيون العقول، وفيه تعريضٌ بجهل المشركين الذين اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم آيةً تصدِّقه في قوله تعالى: {وإلهكم إله واحد} وتسجيلٌ عليهم بسخافة العقولِ وإلا فمن تأمل في تلك الآيات وجدَ كلاً منها ناطقةً بوجوده تعالى ووحدانيته وسائرِ صفاتِه الكماليةِ الموجبةِ لتخصيص العبادةِ به تعالى واستُغني بها عن سائرها فإن كل واحدٍ من الأمور المعدودةِ قد وجد على وجه خاصَ من الوجوه الممكنةِ دون ما عداه مستتبعاً لآثار معينةٍ وأحكامٍ مخصوصةٍ من غير أن تقتضي ذاتُه وجودَه فضلاً عن وجوده على نمطٍ معين مستتبعٍ لحكمٍ مستقل، فإذن لابد له حتماً من موجدٍ قادر حكيمٍ يوجده حسبما تقتضيه حكمتُه وتستدعيه مشيئتُه متعالٍ عن معارضة الغير، إذ لو كان معه آخرُ يقدِر على ما يقدر عليه لزمَ إما اجتماعُ المؤثِّرَيْن على أثر واحدٍ، أو التمانعُ المؤدي إلى فساد العالم.

.تفسير الآية رقم (165):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)}
{وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله} بيانٌ لكمال ركاكةِ آراءِ المشركين إثرَ تقريرِ وحدانيتِه سبحانه وتحريرِ الآياتِ الباهرةِ المُلجئةِ للعقلاء إلى الاعتراف بها الفائضةِ باستحالة أن يشاركَه شيءٌ من الموجودات في صفة من صفات الكمالِ فضلاً عن المشاركة في صفات الألوهية، والكلامُ في إعرابه كما فُصّل في قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله وباليوم الأخر} إلخ ومن دون الله متعلق بيتخذ أي من الناس مَنْ يتخذ من دون ذلك الإله الواحدِ الذي ذُكرتْ شؤونُه الجليلةُ، وإيثارُ الاسمِ الجليل لتعيينه تعالى بالذات غِبَّ تعيينه بالصفات {أَندَاداً} أي أمثالاً وهم رؤساؤُهم الذين يتبعونهم فيما يأتون وما يذرون، لاسيما في الأوامر والنواهي كما يُفصح عنه ما سيأتي من وصفهم بالتبرِّي من المتّبعين وقيل: هي الأصنام، وإرجاعُ ضميرِ العقلاءِ إليها في قوله عز وعلا: {يُحِبُّونَهُمْ} مبنيٌّ على آرائهم الباطلةِ في شأنها، وصفَهم بما لا يوصف به إلا العقلاءُ، والمحبةُ ميلُ القلب، من الحب استُعير لحبَّة القلبِ ثم اشتُق منه الحبُ لأنه أصابها ورسخ فيها، والفعل منها حبَّ على حد مَدّ لكن الاستعمالَ المستفيضَ على أحب حباً ومحبةً فهو مُحِب وذاك محبوبٌ ومُحَبّ قليل، وحابّ أقلُ منه ومحبةُ العبد لله سبحانه إرادةُ طاعته في أوامره ونواهيه، والاعتناءُ بتحصيل مراضيه، فمعنى يُحبونهم يطيعونهم ويعظمونهم والجملة في حيز النصبِ إما صفةٌ لأنداداً أو حالٌ من فاعل يتخذ وجمعُ الضمير باعتبار معنى مَنْ كما أن إفرادَه باعتبار لفظِها {كَحُبّ الله} مصدر تشبيهيٌّ أو نعتٌ لمصدر مؤكدٍ للفعل السابق ومن قضية كونِه مبنياً للفاعل كونُه أيضاً كذلك، والظاهرُ اتحادُ فاعلِهما فإنهم كانوا يُقِرّون به تعالى أيضاً ويتقربون إليه فالمعنى حباً كائناً كحبهم لله تعالى، أي يسوّون بينه تعالى وبينهم في الطاعة والتعظيم، وقيل: فاعلُ الحبِّ المذكورِ همُ المؤمنون فالمعنى حباً كائناً كحب المؤمنين له تعالى، فلابد من اعتبار المشابهة بينهما في أصل الحبِّ لا في وصفِه كماً أو كيفاً لما سيأتي من التفاوت البين وقيل: هو مصدر من المبنيّ للمفعول أي كما يُحب الله تعالى ويعظم، وإنما استُغني عن ذكر مَنْ يحبه لأنه غير ملبس، وأنت خبير بأنه لا مشابهةَ بين محبتِهم لأندادهم وبين محبوبيتِه تعالى، فالمصيرُ حينئذ ما أسلفناه في تفسير قوله عز قائلاً: {كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ} وإظهارُ الاسم الجليلِ في مقام الإضمارِ لتربية المهابة، وتفخيمِ المضاف وإبانةِ كمال قُبحِ ما ارتكبوه.
{والذين ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ} جملة مبتدأة جيءَ بها توطئةً لما يعقُبها من بيان رخاوةِ حبِّهم وكونِه حسرة عليهم، والمفضلُ عليه محذوفٌ أي المؤمنون أشدُّ حباً له تعالى منهم لأندادهم، ومآلُه أن حبَّ أولئك له تعالى أشدُّ من حب هؤلاءِ لأندادهم فيه من الدَلالة على كون الحبِّ مصدراً من المبني للفاعل ما لا يخفى، وإنما لم يُجعل المفضلُ عليه حبَّهم لله تعالى لما أن المقصودَ بيانُ انقطاعِه وانقلابِه بغضاً وذلك إنما يُتصور في حبهم لأندادهم لكونه منوطاً بمبانٍ فاسدةٍ ومبادٍ موهومةٍ يزول بزوالها، قيل: ولذلك كانوا يعدلون عنها عند الشدائد إلى الله سبحانه وكانوا يعبُدون صنماً أياماً فإذا وجدوا آخَرَ رفضوه إليه.
وقد أكلت باهلةُ إلها عام المجاعةِ وكان من حيس. وأنت خبير بأن مدارَ ذلك اعتبارُ اختلال حبِّهم لها في الدنيا، وليس الكلام فيه بل في انقطاعه في الآخرة عند ظهورِ حقيقةِ الحال ومعاينةِ الأهوال كما سيأتي بل اعتبارُه مخِلٌّ بما يقتضيه مقامُ المبالغة في بيان كمالِ قبحِ ما ارتكبوه وغايةِ عظم ما اقترفوه، وإيثارُ الإظهار في موضع الإضمار لتفخيم الحُبِّ والإشعارِ بعلّته {وَلَوْ يَرَى الذين ظَلَمُواْ} أي باتخاذ الأنداد ووضعِها موضعَ المعبود {إِذْ يَرَوْنَ العذاب} المُعدَّ لهم يومَ القيامة أي لو علِموا إذا عاينوه، وإنما أوثر صيغةُ المستقبل لجريانها مجرى الماضي في الدلالة على التحقيق في أخبار علامِ الغيوب {أَنَّ القوة لِلَّهِ جَمِيعًا} سادّ مسدَّ مفعولي يرى {وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب} عطفٌ عليه وفائدتُه المبالغةُ في تهويل الخطبِ وتفظيعِ الأمر فإن اختصاصَ القوة به تعالى لا يوجب شدةَ العذاب لجواز تركِه عفواً مع القدرة عليه، وجوابُ لو محذوفٌ للإيذان بخروجه عن دائرة البيانِ، إما لعدم الإحاطةِ بكنهه وإما لضيق العبارةِ عنه وإما لإيجاب ذكرِه ما لا يستطيعه المعبِّر أو المستمِعُ من الضجر والتفجُّع عليه أي لو علموا إذ رأوُا العذابَ قد حل بهم ولم يُنقِذْهم منه أحدٌ من أندادهم أن القوة لله جميعاً، ولا دخل لأحد في شيء أصلاً لوقعوا من الحسرة والندم فيما لا يكاد يوصف وقرئ {ولو ترى} بالتاء الفوقانية على أن الخطابَ للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلُح للخطاب فالجوابُ حينئذ لرأيتَ أمراً لا يوصَف من الهول والفظاعة، وقرئ {إذ يُرَوْن} على البناء للمفعول وأن الله شديد العذاب على الاستئناف وإضمارِ القول.

.تفسير الآية رقم (166):

{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)}
{إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا} بدلٌ من {إذ يرون} أي إذ تبرأ الرؤساء {مِنَ الذين اتبعوا} من الأتْباع بأن اعترفوا ببطلان ما كانوا يدّعونه في الدنيا ويدْعونهم إليه من فنون الكفر والضلالِ واعتزلوا عن مخالطتهم وقابلوهم باللعن كقول إبليس: إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ وقرئ بالعكس أي تبرأ الأتْباعُ من الرؤساء والواو في قوله عز وجل: {وَرَأَوُاْ العذاب} حالية وقد مضمرةٌ، وقيل: عاطفةٌ على {تبرأ} والضمير في رأوا للموصوفين جميعاً {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاسباب} الوصلةُ التي كانت بينهم من التبعية والمتبوعيةِ والاتّفاقِ على الملة الزائغةِ والأغراضِ الداعيةِ إلى ذلك، وأصلُ السبب الحبلُ الذي يرتقى به الشجرُ ونحوُه، والجملةُ معطوفةٌ على {تبرأ} وتوسيطُ الحال بينهما للتنبيه على علة التبرّي، وقد جُوّز عطفُها على الجملة الحالية.

.تفسير الآيات (167- 168):

{وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)}
{وَقَالَ الذين اتبعوا} حين عاينوا تبرُؤَ الرؤساءِ منهم وندِموا على ما فعلوا من اتّباعهم لهم في الدنيا {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أي ليت لنا رجعةً إلى الدنيا {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} هناك {كَمَا تبرءوا منا} اليوم {كذلك} إشارةٌ إلى مصدر الفعلِ الذي بعده لا إلى شيءٍ آخرَ مفهومٍ مما سبق، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجةِ المشارِ إليه وبُعد منزلتِه مع كمال تميُّزِه عما عداه وانتظامِه في سلك الأمورِ المشاهدة، والكافُ مُقحَمةٌ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامةِ، ومحلُه النصبُ على المصدرية أي ذلك الإراءَ الفظيعَ {يُرِيهِمُ الله أعمالهم حسرات عَلَيْهِمْ} أي نداماتٍ شديدةً فإن الحسرةَ شدةُ الندم والكمَدِ، وهي تألمُ القلبِ وانحسارُه عما يُؤْلمه، واشتقاقُه من قولهم بعير حسيرٌ أي منقطعٌ القوة وهي ثالثُ مفاعيلِ يُري إن كان من رؤية القلبِ وإلا فهي حالٌ، والمعنى أن أعمالَهم تنقلبُ حسراتٍ عليهم فلا يرَوْن إلا حسراتٍ مكانَ أعمالِهم {وَمَا هُم بخارجين مِنَ النار} كلامٌ مستأنفٌ لبيان حالِهم بعد دخولِهم النارَ، والأصلُ وما يخرجون، والعدولُ إلى الاسمية لإفادة دوامِ نفي الخروج، والضميرُ للدَلالة على قوةِ أمرِهم فيما أُسند إليهم كما في قوله:
هُمُ يفرُشون اللِّبْدَ كُلَّ طِمِرَّة ** وأجردَ سبّاقٍ يبزّ المُغالبا

{يأَيُّهَا الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الارض} أي بعضِ ما فيها من أصناف المأكولات التي من جملتها ما حرّمتموه افتراءً على الله من الحرْثِ والأنعام. قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في قومٍ من ثقيفٍ وبني عامرِ بنِ صَعْصَعةَ وخُزاعةَ وبني مدلج حرَّموا على أنفسهم ما حرّموا من الحرْث والبحائرِ والسوائبِ والوصائل والحامِ، وقولُه تعالى: {حلالا} حال من الموصول أي كلوه حال كونه حلالاً، أو مفعولٌ لكلوا على أنّ مِنْ ابتدائيةٌ وقد جُوِّز كونُه صفةً لمصدر مؤكَّدٍ أي أكلاً حلالاً، ويؤيد الأولَيْن قولُه تعالى: {طَيّباً} فإنه صفةٌ له ووصفُ الأكل به غيرُ معتاد، وقيل: نزلت في قوم من المؤمنين حرموا على أنفسهم رفيعَ الأطعمة والملابس، ويردّه قوله عز وجل: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان} أي لا تقتدوا بها في اتباع الهوى فإنه صريحٌ في أن الخطابَ للكفرة، كيف لا وتحريمُ الحلال على نفسه تزهيداً ليس من باب اتباع خطواتِ الشيطانِ فضلاً عن كونه تقوُّلاً وافتراءً على الله تعالى، وإنما الذي نزل فيهم ما في سورة المائدة من قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ} الآية، وقرئ {خُطْواتِ} بسكون الطاء وهما لغتان في جمع خُطْوة وهي ما بين قدمي الخاطي، وقرئ بضمتين وهمزة، جعلت الضمةُ على الطاء كأنها على الواو، وبفتحتين على أنها جمعُ خَطْوة وهي المرة من الخَطْو {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} تعليل للنهي، أي ظاهرُ العداوة عند ذوي البصيرة وإن كان يُظهر الولاية لمن يُغويه، ولذلك سُمِّي ولياً في قوله تعالى: {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت}